الخافض الرافع
الخفض في اللغة ضد الرفع، والخفض هو الانكسار واللِّين. قال تعالى:
"وَاخْفِضْ لَهُما جَنَاحَ الذُلِ مِنَ الرَحْمَة وَقُلْ رَبِي ارحَمْهُما كَما رَبَياني صَغِيراً"
[الإسراء:24]
"وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ"
[الشعراء:215]
والانخفاض هو الانحطاط، وتوصف به الواقعة قال تعالى:
"إِذا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِها كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ"
[الواقعة: 1-3]
الناس يتمايزون بِمقاييس أرضية، مقاييس المال، القوة، والذكاء، وتحصيل العلم، والوجاهة، وغيرها من الأمور. فإذا وقعت الواقعة، تبدَّلت هذه المقاييس، وتحكّمت في الخلق مقاييس رب العالمين. يُقاس الإنسان بعد الموت بِقدر اِستقامته وطاعته لله - عز وجل - وإحسانه للخلق. فلذلك تنقلب المقاييس فجأةً، فالذي كان في القمم ربما صار في الحضيض، والذي كان في الحضيض ربما صار في القمم.
الخفض من صفات الواقعة، والواقعة اسم من أسماء يوم القيامة. أي أن الواقعة تخفض أقواماً بِمعاصيهم فَيَصيرون إلى النار، وترفع أقواماً بطاعاتهم فيدخلون الجنة.
وقيل: الخافض الذي يخفض بالإذلال من تعاظم وتكبَّر وشمخ بِأنفِه وتجَبَّر.
وقيل أيضاً: الخافض هو الواضع لِمن عصاه، والمُذِل لِمن غضِب عليه، ومُسْقِط الدرجات لِمن يستَحِق ذلك. يَخْفِض الكفار بالإشقاء ويخفض أعداءه بالإبعاد.
ويقول: أنا، ونَحن، ولِي، وعِندي، أربع كلمات مهلِكات. قال الله تعالى:
"قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ"
[ص:76]
فأهلكه الله!
"قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ"
[النمل:33]
قالها قوم بَلْقيس فأذلهم الله عز وجل.
"أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ"
[الزخرف:51]
قالها فرعون فغرق!
"قَالَ إِنَمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِندي"
[القصص:78]
قالها قارون فَدَمَّره الله عز وجل وخسف به وبداره الأرض!
فلنتواضع قبل أن يضعنا الله، فالتواضع عِبادة والتكبر نقيض العِبادة. لذلك من أراد أن ينال حظاً من هذا الاسم فَعَليْه أن يخفض نفسه بالتواضع، فَيَراها أقل من جميع العباد. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخل عليه رجل فارتعدت مفاصله فهوَّن عليه: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ: "هَوِّنْ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ كانت تَأْكُلُ الْقَدِيدَ"
(رواه ابن ماجه)
فكلما تواضعنا إلى الله، رفعنا الله. ولا يوجد على وجه الأرض إنساناً أشد تواضُعاً من رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ كما لا يوجد من أعزه الله ورُفِع ذِكره وشأنه كَرَسول الله صلى الله عليه وسلم، فَبِالقَدْر الذي نتواضع لله ترتفع إلى مراتب العُلو. ألم يقل الله عز وجل:
"وَرَفَعْنَا لََكَ ذِكْرَكَ"
[الشرح:4]
ويخفض الله عز وجل كل خارجٍ عن شريعته مهما كان غنِياً بالمال، أو عزيزاً بين الرِّجال. وقد ذكر العلماء أن الله الخافض يخفض من قَصُرت مُشاهداته على المحسوسات وقصَر هِمَّته على ما تفعله البهائم من شراب وأكل ونكاح. يعني من لم يؤمن بالغيب وإنما آمن بالأشياء المادية والذي يراه بعينه فقط. أما الآخرة فما رآها ولذلك فهو يُنكِرها، وكذلك عِقاب الله ما رآه فأنكره.
وحظ العبد من هذا الاسم أن يخفض نفسه بالتواضع، والتذلل، والانصِياع، ولِين الجانب، ولين العريكة، وأن يرى نفسه واحداً من الناس، لا أن يراها فوقهم. وأن لا يعظم أهل المعصية. وأن يخفِضْ إبليس بِعَدم الإصغاء لوسوسته. فإذا أصغى الإنسان إلى وسْوَسَة الشيطان يكون قد رفعه. أما إذا أعرض عنه وسفَّه وسوسته وابتعد عنه وعن أعوانه ولعنه وأعرض عن كل ما يُلقيه في روعه، يكون قد وضعه وانتصر على نفسه.
من أدعية هذا الاسم:
"إلهي أنت الخافض للجبارين بِقَهرِك، المُذِلّ للمتكبرين بِجبَروتك، المُتعالي العلي الكبير، المتجلي بِنصرك، وأنت نِعم المولى ونِعم النصير."
الرافع:
أن ترفع أيْ: تعلو. والمعاني متعددة فهناك معنى مادي:
"وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ"
[النساء:154]
وقوله :
"اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا"
[الرعد:2]
ومعنى الإطالة:
"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ"
[البقرة:127]
ومعنى رِفعة الشأن والتنويه بالذِّكر:
"وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"
[الشرح:4]
والرافع: هو الذي يرفع الأولياء بِخُضوع القلوب لهم وبنصرهم على الأعداء. ويرفع الصالحين إلى أعلى عِلِيين، ويرفع الحق، ويرفع المؤمنين بالإسعاد، ويرفع الأولياء بِالتقريب والنصر، وكل من تولاه حقاً وعدْلاً. وما أخلص عبْد لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهْفو إليه بِالموَدَّة والرحمة. فهذا رفع. فإذا أحب الله عبداً أوْدع في قلوب العباد محبته، وهذا معنى قوله تعالى:
"وألقيت عليك محبة مني"
[طه:39]
أيْ أحبك الخلق بِحُبي لك. هذا معنى الرافع.
ومن معاني قوله تعالى: "ورفعنا لك ذكرك" أن كل مؤمن يقتدي بِرسول الله، ويقتفي أثره، ويتبع سنته، يناله شيء من ما نال النبي من رِفْعة شأنٍ وعلُو قدْر وسيرة العلماء العاملين الصالحين الصادقين والمخلصين في التاريخ الإسلامي تُؤكّد هذه الحقيقة.
*******
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً
وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
واجعلنا ممن يسمعون القول فيتَبعون أحسنه
وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
آمين