ضاق العيش في بلادي فسافرت للعمل في احدى الدول الأوربية ، أفنيت فيها زهرة شبابي ، عشرون عاما تجرعت فيها مرارة الغربة عن الأهل والأصدقاء وانقطعت عني الأخبار ، ثم قررت العودة الى أحضان الوطن الذي غادرته شابا فقيرا ، وعانقته كهلا غنيا . أقلعت الطائرة متجهة الى ارض الميلاد ، كانت ساعات طويلة قضيتها على متن الطائرة يصارع فيها الشوق ملل الانتظار . أتت الي احدى المضيفات تحمل على قسمات وجهها حسن بلادي وبين يديها عربة المشروبات . اقتربت مني وتبسمت ثم اعطتني قائمة المشروبات وقلم ، لعله لتدوين الملاحظات ... تفحصت القائمة فلم أجد بغيتي فيها ، فسألتها باللغة العربية عن شاي أخضر فهزت رأسها بدهشة ، وادركت أنني قد أخطأت في ظني أنها من بنات بلادي ... فخاطبتها بالانجليزية ، ولكن زادت دهشتها وطأطأت رأسها مرة اخرى ، وابتسمت ثم غابت وعادت من جديد ومعها مضيفة أخرى تتسابقا في توزيع الابتسامات ، فتداركت الموقف المحرج ، وطلبت فنجان قهوة .... نظرت الى جاري في دهشة فاذا به يبتسم هو الآخر ، فأومأت اليه برأسي مستفسرا منه عما حدث ، فصعقت من قرع كلماته في أذني " انها صماء " .... ماذا قولت ؟؟ فأجابني مرة أخرى " انها صماء لا تسمع " . نظرت اليها أرقب تحركاتها في ذهول ... سبحان الله ، ولكن كيف تم قبولها من شركة الطيران ؟؟؟!!!... الى هذا الحد بلغت الوساطة والمحسوبية مبلغها في البلاد !!! .
تم ربط الأحزمة استعدادا للهبوط ... خرجت من الطائرة حامد الله على سلامة الوصول.... شيء ما يلفت نظري وأنا اتنقل في صالات المطار ... هل هذه مجرد صدفة عابرة ؟؟؟ فضابط الجوازات معاق في يده اليسرى ، وموظف الجمارك يتوكأ على عصاه . لا أكاد أصدق عيني موظفي الصالة يتحدثون بلغة الاشارة ... حتى حمالي الأمتعة معاقين في يد أو رجل أو عين .... ما الذي يحدث هنا ، وأين أنا ... هذه ليست بلادي .
انهيت اجراءات الوصول ، وتوجهت خارج المطار بحثا عن سيارة أجرة ، استوقفت احدى السيارات وركبت ، فاذا بالسيارة تحمل شعار " معافى بالداخل " ، طالعت برأسي من زجاج السيارة الى الشوارع ، فاذا البصر مرتدا بما لايصدقه العقل .... كأني في مستعمرة معاقين ، لم أعد أستطيع تحمل هذه المشاهد المؤلمة دون سؤال ... نظرت الى سائق السيارة في هلع وسألته :
ما الذي حدث في هذه البلاد ؟؟ ، هل صب عليها ربك سوط عذاب ؟؟؟
السائق : ماذا تعني يا سيدي ؟؟؟
أقصد ما الذي أصاب الناس في أجسادهم ؟
السائق : يبدو أنك غريب عن هذه البلاد !!!
بلى ولكن لي زمن طويل منذ تركتها .
السائق : سيدي ... انها الأولوية .
ماذا تقصد بالأولوية ؟؟؟
السائق : أولوية التوظيف للمعاق ... فالدولة قد وضعت هذا النظام منذ 15 عام ، ونظرا لأن العاطلين عن العمل كثيرون ، فقد تسابقوا في بتر أيديهم وفقأ أعينهم كي تشملهم عناية الدولة ، حتى زادت أعداد المعاقين على المعافين طمعا في الوظيفة ولقمة العيش .
الى هذا الحد وصل الحال بالعباد ؟؟؟
وقفت السيارة عند احدى الاشارات ... فأدخل متسول أشعث رأسه من نافذة السيارة ، طلبا للصدقة !!!!! ... أي صدقة تحل لهذا العملاق ؟؟؟!!! ..... فقد كان المتسول معافى في بدنه ، قوي البنية ، أشبه ما يكون بالمصارع .... فبدت على السائق ملامح الحزن والأسى على حال المتسول ، وقال لي بنبرة خافتة : مسكين هذ المتسول .... كيف يعيش بجسده المكتمل في هذا المجتمع الذي لا يرحم المعاق فيه المعافى في بدنه ؟؟؟!!!
فالتفت الى السائق ..... وأمرته أن يعود بي مرة اخرى الى المطار .
منقول