الحمدُ للهِ رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فإن الزمانَ يدورُ، والأيامَ تمرُّ؛ لتعودَ إلينا بالذكريات العطرة، والمناسبات العظيمة، ومنها هذا الحدث الجليل العجيب (الإسراء والمعراج)، الذي كان في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب على أرجح الأقوال، وتفاصيل هذا الحدث معروفة ولكننا نحاول- فقط- أن نتعلَّمَ منه المعاني والدروس، ونستلهمَ منه العظات والعبر، ومنها:
مكانة النبي صلى الله عليه وسلم
مرت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحداثٌ أليمةٌ، ومواقفُ حزينةٌ، منها فَقْدُ زوجه خديجة- رضي الله عنها- التي كانت أول من آمن به، وعزَّرته ونصرته وواسته، ثم لحِق بها عمُّه، وكان ظهيرًا منيعًا له- صلى الله عليه وسلم- فاشتد به إيذاء المشركين، فأراد الله عز وجل أن يسرِّي همَّه فكانت هذه الرحلة الخارقة التي أراه الله فيها من آياته الكبرى، وكشف له حُجُبَ الزمان، وطوى له حواجز المكان بإرادته الماضية عز وجل، ومشيئته الطليقة، وهذا يدل على مكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه.
وفي المسجد الأقصى المبارك يجمع الله عز وجل النبيِّين والمرسلين، ويكتم الزمان أنفاسَه، يترقَّب من يتقدم لإمامة هذا الرهط الفريد، فإذا هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليظهر من هذا الموقف شرفه- صلى الله عليه وسلم- وفضله عليهم، وليعلن من خلاله- أيضًا- انتقال الإمامة إلى أمة الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام.
ثم تكون مرحلة المعراج؛ حيث الارتقاء المتواصل في السماء، ثم يتوقف جبريل عليه السلام عند موضع فيها، قائلاً: "وما منا إلا له مقام معلوم"، ويؤذن لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالاستمرار في الصعود إلى سدرة المنتهى؛ ليكون في حضرة القدس الأعلى؛ حيث الأنوار والفيوضات والتجليات، وبهذا يظهر في المعراج فضله- صلى الله عليه وسلم- على أهل السماء بعد أن ظهر في الإسراء فضله على أهل الأرض، فهذا يا أمة الإسلام مقام نبيكم- صلى الله عليه وسلم- فهل تدرك قلوبُكم قدرَه، وتؤدون إليه حقه، ومن ذلك:
* الحب: الذي يفوق حبَّ النفس والأهل والولد، وهذا مقياسُ الإيمان، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين"، وقد بلغ حبّ صحابته له حدَّ المسارعة بافتدائه بأرواحهم كما فعل أبو دجانة يوم أحد؛ إذ انكبَّ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليفتديَه والسهام تتوالَى عليه وتغرس في ظهره وهو ثابت لا يتململ، حتى صار ظهرُه كالقنفذ- رضي الله عنه.
* الطاعة: فإنها من طاعة الله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (النساء: من الآية 80)، وفيها الهدى والرشاد: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ (النور: من الآية 54).
وهذا عبد الله بن جحش حين أرسله- صلى الله عليه وسلم- إلى نخلة (بين مكة والطائف) ليأتيه بخبر قريش، وأمره أن يسير مسيرةَ يومين في اتجاهٍ عيَّنه له، ثم يقرأ بعدها رسالته صلى الله عليه وسلم، ويمضي لما فيها، فيمتثل- رضي الله عنه- وهو لا يعرف مهمته، ولا ما يطلب لها، وبعد اليومين يقرأ الرسالة ويقول: سمعًا وطاعةً يا رسول الله.
وهذا الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان يوم الأحزاب، حين ندبه- صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه بخبر الأحزاب ورجع من غير أن يُحدث شيئًا، فينطلق- رضي الله عنه- إلى ما كُلِّف به، ويكون في مؤخرة القوم ليلاً، ثم يجهِّز سهمه ويهمّ برميه إلى نحر أبي سفيان فيتذكَّر قوله- صلى الله عليه وسلم-: "ويرجع من غير أن يُحدث شيئًا"، فينزع سهمه ويصرف النظر عن محاولة قتل أبي سفيان؛ إيثارًا للطاعة على أي اعتبار آخر.
* الاقتداء بسنته: والتأسي بهديه كما أمرنا ربنا عز وجل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾ (الأحزاب)، وقد كان أمر الصحابة عجبًا في اقتفائهم أثرَه صلى الله عليه وسلم، فهذا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يركب دابتَه ذات مرة وبعد أن يفرغ من دعاء الركوب المعروف يبتسم فيسأل عن هذا فيجيب السائل: عجبت مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "عجِبَ الله من عبده علم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو".
ثم انظروا إلى عبد الله بن عمر وقد تربَّى على عين أبيه، ومضى على دربه، يتوجَّه براحلته إلى مكة فيستدير بها عند موضع في الطريق، فيُسأل عن ذلك فيجيب رضي الله عنه: رأيت القصواء تدور برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذا الموضع.
مكانة الصلاة
قضت مشيئة الله وحكمته أن تُفرض الصلاة في الملأ الأعلى في تلك الرحاب الشريفة الطاهرة، وبتكليف مباشر من الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم- بغير واسطة من أمين الوحي جبريل؛ ليكون للصلاة هذه الخصوصيات من بين فرائض الإسلام، ففيها تعرُج الروح إلى ذي الجلال والإكرام- عز وجل- ويتصل العبد بربه مباشرةً دون واسطة، وهي- أيضًا- تكتنفها الطهارة قبلها (لاشتراط طهارة البدن والثياب والمكان لصحتها)، وبعدها لأنها من أهم الوسائل التي تُغسل بها الذنوب وتُمحى بها الخطايا؛ لقوله عز وجل: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: من الآية 45)، ولقوله صلى الله عليه وسلم:
"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهن ما اجتُنبت الكبائر".
أفلا يجدُرُ بنا يا أمة الإسلام أن نحتفيَ بالصلاة الحفاوةَ التي تليق بها، فنحافظ على أدائها في أول وقتها في جماعة المسجد، مع حضور العقل، وخشوع القلب، وسكون الجوارح، عسى أن نستجلب بها راحةَ القلوب وقرةَ العيون من بؤس هذا الواقع ومرارته؟! ألم يقل صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال"؟! وألم يقل كذلك "وجعلت قرة عيني في الصلاة"؟!
مكانة الأقصى المبارك
لم يشأ الله عز وجل أن يعرج بنبيه- صلى الله عليه وسلم- من حيث هو في مكة إلى السماوات العلا مباشرةً، ولكنه أسرى به أولاً إلى المسجد الأقصى ليلفت أنظار المسلمين في وقتٍ مبكِّرٍ من عمر الدعوة إلى هذه البقعة المباركة، ثم يأمر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- بعد فرض الصلاة أن يتوجه إلى المسجد الأقصى سبعةَ عشرَ شهرًا لتظلَّ أنظار المسلمين متجهةً إليه، وقلوبهم معلقةً به في صلاتهم ودعائهم.
وبذلك اكتسب المسجد الأقصى جُملةَ ألقابٍ من هذه الرحلة، فأصبح (منتهى الإسراء)، و(مبتدأ المعراج)، و(أولى القبلتين)، إضافةً إلى سائر ألقابه الأخرى التي عُرف بها، فهو "ثاني المسجدين"، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: "بيت الله الحرام الذي في مكة"، قالوا ثم أي؟! قال: "بيت المقدس"، قالوا: كم بينهما؟ قال: "أربعون"، وهو "ثالث الحرمين"؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: بيت الله الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".
ومع ألقاب الشرف والفضل هذه فالمسجد الأقصى يُضاعَف أجرُ الصلاة فيه إلى خمسمائة ضعف، وقد تعاظمت بركتُه حتى فاضت وامتدَّت إلى ما حوله من المدينة التي تحتضنه (بيت المقدس) والقُطر الذي يضمّه (فلسطين)، تدبَّروا قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ (الإسراء: من الآية 1) وقوله تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)﴾ (الأنبياء)، ومع هذا كله فقد كانت هذه الأرض مهدًا لرسالات السماء الهادية، وساحةً لأيام الإسلام المجيدة ومعاركه الفاصلة في اليرموك وأجنادين وعين جالوت وحطين، ومثوى الأجساد الطاهرة للأنبياء والصحابة والشهداء.
يا أمة الإسلام
[right]
هذه مكانة الأقصى وقداسته، ورغم هذا انظروا إلى ما آلَ إليه أمرُه، فهو أسيرٌ حزينٌ، في قبضة الصهاينة الحاقدين، يدبّرون له المخططات، ويحيكون له المؤامرات، من حصار.. وإقامة المتاريس.. ومنع المصلين.. ومواصلة أعمال الحفر.. وشق الأنفاق تحته.. ومحاولة تغيير معالمه.. وآخر ذلك هدم طريق المغاربة الواصل بين حائط البراق وساحة المسجد؛ وذلك لإقامة جسر عملاق مكانه، يسمح بمرور الحفارات والشاحنات والعربات العسكرية، إضافةً إلى تكرار محاولات اقتحامه وتدنيسه، بل لم يتورَّعوا عن إضرام النار فيه عام 1969م، متطلِّعين في النهاية إلى هدمه وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه.
ولكننا نرى إزاء هذه المواجع والمآسي ما يشرح الصدور ويُفرح القلوب من أهل الرباط في فلسطين، فحين انتهك الأعداء حرمة المقدَّسات انتفضوا انتفاضةَ الأسود، رغم قلة عددهم، وضعف عدتهم، وقدموا هذه البطولات العجيبة، وسارعوا لبذل أرواحهم، واستقبلت الأمهات أنْبَاء استشهاد الأبناء بالفخر والاعتزاز ومظاهر الابتهاج، وضمَّت قوافل الجهاد الفئات المختلفة، فلم تقتصر على الشباب والرجال، بل شملت كذلك الفتيان والفتيات.
فهذه يا أمة الإسلام من مظاهر البشرى العاجلة، ثم ترقَّبي بعد ذلك البشرى القادمة التي أخبر عنها ربنا عز وجل بقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ (الإسراء: من الآية 7)، والتي أخبر عنها نبينا- صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لعدوِّهم قاهرين لا يضرُّهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء فهم كالإناء بين الأكلة حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك" قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس"، وبقوله صلى الله عليه وسلم- أيضًا-: "لا تقوم الساعةُ حتى يقاتل المسلمونَ اليهودَ فيقتلهم المسلمونَ حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود".
وإلى أن يتحقق هذا الوعد- يا أمة الإسلام- على يد أجيال قدَّرها الله تعالى في مكنون غيبه، علينا أن نقوم جميعًا بدورنا، وواجبنا نحو فلسطين، فهي لا تخص ساكنيها فحسب، بل إنها وقفٌ للمسلمين جميعًا، ومن هذه الواجبات:
* مجاهدة النفس وتزكيتها، والارتقاء بها إيمانيًّا وعباديًّا وخلقيًّا وسلوكيًّا، وذلك حتى نكون أهلاً لتنزل نصر الله علينا.
* الالتفاف حول مشروع المقاومة، ونشر ثقافتها، وتقدير رجالها الشرفاء الأوفياء، وتنقية صفوفها من الدخلاء العملاء، ودعمها بكل المستطاع من وسائل الدعم المادية والمعنوية، فلا سبيل لردِّ العدوان ودحْر الاحتلال، وتحرير المقدسات، واسترداد الحقوق إلا بالمقاومة ثم المقاومة.
* توحيد الصف، وجمع الكلمة، ونبذ الفرقة، والاستعلاء فوق أسبابها؛ فإن الكيد متعاظم، والخطر داهم، والأعداء يتجمع فرقاؤهم، ويتكتَّل أقوياؤهم من أجل مخططات إجرامية ومشروعات شيطانية.
* على الحكام أن يقوموا بواجبهم تجاه القضية، ويكونوا أوفياء لأمتهم، أمناءَ على مقدساتها وحقوقها، ووالله إنها لفرصتهم السانحة لتقدِّرهم الأمة، ويذكرهم التاريخ في سجلاَّت الافتخار، ألا يحبُّون أن يكونوا أمثال صلاح الدين، وسيف الدين، فإن لم يكونوا فلا أقلَّ من أن يكفُّوا عن الشعوب بأسَهم، ويرفعوا عنها ظلمَهم، ولا يكونوا أداةً في يد الأعداء، ينفذون بها مؤامراتهم، ويحققون بها غاياتهم.
* تعميق الوعي بالقضية، وإبداء الاهتمام بها، ومتابعة أخبارها وتطوراتها، ثم توعية الآخرين بها، وشدّهم إليها، وجمعهم عليها.
* دراسة صفات الأعداء وأحوالهم وتاريخهم، وشحْذ الذاكرة بمخازيهم وجرائمهم.
* تربية أبناء الأمة على معاني الرجولة والخشونة، والابتعاد عن معاني الترف والنعومة، وتوجيههم لدراسة سيرة الأبطال المجاهدين والقادة الفاتحين، ولمحاولة التأسي بهم.
* الجهاد المالي الذي يبدأ بالاقتطاع من التحسينات ثم الحاجيات ثم الضرورات، واعتبار هذا الجهاد حقًّا لهؤلاء المرابطين في الميدان نيابةً عن الأمة، يدافعون عن شرفها وكرامتها ومقدساتها.
* المقاطعة الجادَّة والحاسمة لمنتجات الأعداء وحلفائهم وأعوانهم، فما أقوى أثرها وما أمضى سلاحها!!
* الدعاء الدائم في الأوقات الشريفة والأماكن الطاهرة التي هي أرجى للإجابة.
* اضطلاع مؤسسات المجتمع المدني والنخب الإعلامية والفكرية والسياسية والثقافية والأدبية، كلٌّ فيما يناسبه وفيما يستطيعه من صور الدعم ووسائله وأنشطته.. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به..
وصلَّى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين
[/right]